فصل: مَوْعِظَة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان



.مَوْعِظَة:

عِبَادَ اللهِ قَدْ كَثُرَ في زَمَنِنَا اليَوْمَ أُنَاسٌ يَرَى أَحَدُهُمْ قَدْرَ نَفْسِهِ فَوْقَ مَا تَتَصَّوَرُهُ الأَفْهَام وَيَجْزِمُ كُلَّ الجَزْمِ أَنَّهُ رَفِيْعُ المَقَامِ، رِفْعَةً كُلُّ رَفِيْعٍ مَعَهَا تَحْتَ الأَقْدَامِ، لَا تَذْكُرُ أَمَامَهُ فَاضِلاً إِلّا ضَحِكَ وَهَزَّ رَأسَهُ مُتَهَكِّمَاً سِاخِرَاً بِمَا لَهُ مِنْ مَقَامٍ وقَدِيْمَاً قِيْلَ:
وَمَنْ جَهِلَتْ نَفْسُهُ قَدْرَهُ ** رَأَى غَيْرُهُ مِنْهُ مَا لا يَرَى

وَتَجِدُ هَذَا المُتَكَبِّرُ المُعْجَبُ بِنَفْسِهِ شَرِسَاً أَحْمَقاً ذَا إبَاءٍ وَاسْتِعْصَاءٍ حَتَّى عَلَى خَالِقَهَ القَدِيْر الكَبِيْر المُتعالى وَتَرَاهُ نَارِيَّ المِزَاجِ يَلْتِهبُ التِهَابَاً وَيَنْفَجِرُ لِأدْنى كَلِمَةٍ لا تُرْضِيْهِ وَلَوْ لَمْ يَقْصِدَ قَائِلُهَا إلا الحُسْنَى.
وَمِنْ عَلَامَاتِهِ أَنَّكَ تَجِدُهُ حَرِيْصَاً عَلَى أَنْ يَكُوْنَ أَمَامَ النَّاسِ وَأَنْ يُصْغُوا إلَى كَلَامِهِ وَيُؤَلمهُ كَلَامُ غَيْرِهِ وَلَوْ كانَ حَقًّا وَتَجِدُ ثِيَابَهُ مُسْبَلَةٌ وفِي مَشْيِهِ يَتَبَخْتَر مُصَعّرِاً خَدَّهُ وَإنْ كَانَ عَلَيْهِ عِقَالٌ تَجِدُهُ مُمِيْلاً لَهُ وَتَجِدُ بَعْضَهُمْ قَدْ وَفَّرَ شَارِبَهُ وَفَتَلَهُ وَسَوَّى شَنَبَاتِهِ كالقُرُوْنِ قَالَ بَعْضُهُمْ:
إنَّ الكَمَالَ الذِيْ سَادَ الرِّجَالُ بِهِ ** هُوَ الوَقارُ وَقَرْنُ العِلْمِ بِالعَمَلِ

فَقُلْ لِمَنْ يَزْدَهِيْ عُجْبَاً بِمَنْطِقِهِ ** وَقَلْبُهُ في قُيُوْدِ الحِرْصِ والأَمَل

مَهْلَا فَمَا الله سَاهٍ عَنْ تَلَاعُبِكُمْ ** لَكِنَّ مَوْعِدُكُمْ في مُنْتهى الأَجَلِ

وَقُلْ لِمَنْ فَخْرُه في فَتْلِ شَارِبِهِ ** أَضَعْتَ عُمْرَكَ بَيْنَ الكْبِرِ وَالكَسَلِ

حَتَّامَ تُبْرِمُ يَا وَافِيْ القَفَا شَنَبَاً ** مَا فِي طَوَايَاهُ إلَّا خَيْبَةُ الأَمَلِ

أَصْبَحْتَ بُعْبُعَ مَنْ وفي البَيْتِ تُزْعِجُهُمْ ** هَلاَّ أَخَفْتَ العِدَا يَا مَعْرَضَ الخَجَلِ

آخر:
قل لِلّئيمِ الذي أحَفْىَ لِلِحَيتِه ** وَتَاهَ في شَنَباتٍ حَشْوُهَا قَذَرُ

أُرْفُقْ فَلَيْسَ كَمَالاً مَا تَتِيْهُ بِهِ ** لَكِنَّهُ نَتَنُ يَشُوْبُهُ مَذَرُ

وَمِنْ عَلَامِاتِهِ أَنَّكَ تَجِدُ صَاحِبَ الكِبْرِ لَا يَرْغَبُ قُرْبَ الفُقَرَاءِ مِنْهُ وَلَا يَأْلَفُ إِلَّا الأَغْنِيَاءَ فَالمُتَكَبِّرُ لا يُحِبُّ لِلْمُؤْمِنِيْنَ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ لأنَّهُ لا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ بِسَبَبِ كِبْرِهِ وَعُجْبِهِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى التَّوَاضُعِ وَهُوَ رَأسُ أخْلَاقِ الأصْفِيَاءِ.
وَلَا يَقْدِرُ المُتَكَبِّرُ عَلَى تَرْكِ الحِقْدِ وَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَدُوْمَ عَلَى الصِّدْقِ وَلاَ يَقْدِرُ عَلَى تَرْكِ الغَضَبِ وَلَا عَلَى كَظْمِ الغَيْظِ وَلا يَسْلَمُ مِنَ احْتِقَارِهِ لِلنَّاسِ وَلَا يَسْلَمُ مِن الغِيْبَةِ وَالبُهْتِ لأنَّهُ فِيْهِ مِن العَظَمَةِ وَالعِزَّةِ وَالكِبْرِيَاءِ مَا يَحُوْلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ.
فَمَا مِنْ خُلُقٍ ذَمِيْمٍ وَقَبيْحٍ إلّا وَصَاحِبُ الكِبْرِ مُضْطَرُّ إِلَيْهِ لِيَحْفَظَ بِهِ عِزَّهُ وَعَظَمَتَهُ وَلِذَلِكَ وَرَدَ في الحَدِيْثِ أنّهُ: «لَا يَدْخُلُ الجَنّةَ مَنْ في قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ». وفي وَصِيَّةِ لُقْمَانَ لابْنِهِ يَقُولُ: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ في الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ الله لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُوْرٍ}.
وَمِنْ تَعَالِيْمِ رَبِّنَا لِهَذِهِ الأُمَّةِ وَنَبِيِّهَا عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلَامُ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: {وَلَا تَمْشِ في الأرْضِ مَرَحاً إنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأرْضِ وَلَنْ تَبْلُغَ الجِبَالَ طُوْلا}.
وَبِالحَقِيْقَةِ إنَّ المتَكَبِّرَ مِسْكِيْنٌ ثم مِسْكِيْنٌ إلَى حَدٍّ يَسْتَحِقُّ مَعَهُ الرِّثَاءُ فإنَّكَ بَيْنَمَا تَرَاهُ بِهَذِهِ الكِبْرِيَاءُ وَالعَظَمَةِ تَرَاهُ غَارِقَاً في بَحْرِ المَعَاصِيْ وَذُلِّهَا يُلْقِيْ نَفْسَهُ في جَهَنَّمَ.
أَيَظُنُّ هَذَا المِسْكِيْنُ أَنَّهُ عَزِيْزٌ واللهُ عَلَيْهِ غَضْبَانٌ أَوْ يَظُنُّ أَنَّهُ رَفِيْعٌ وَهُوُ في قاذُوْرَاتِ المَعَاصِيْ إنَّ العِزَّةَ والرِّفْعَةَ لاَ يَحْصُلاَنِ بِالدَّعْوَى وَلَيْسَ حُصُوْلُهُمَا بِيَدِ مَخْلُوقٍ وَلَكِنَّهُمَا بِيَدِ اللهِ وَحْدَهُ يَمْنَحُهُمَا إلَى مَنْ يُسَارِعُونَ إلى طَاعَةِ مَوْلاَهُم جلَّ وَعَلَا وَتَقَدَّسَ.
فَيَا عِبَادَ اللهِ انْصَحُوا مَنْ وَقَعَ في وَرْطَةِ الكِبْرِ وَقُولُوا لَهُ تَدَبَّرْ كَلاَمَ رَبِّ العَالَمِيْنَ مِثْلَ قَولِهِ تَعَالَى إنّهُ لا يُحِبُّ المُسْتَكْبِرِيْنَ وَقَوْلَهُ تَعَالَى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الذِيْنَ يَتَكَبَّرُوْنَ في الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وإنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإنْ يَرَوْا سَبِيْلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوْهُ سَبِيْلَا وَإنْ يَرَوْا سَبِيْلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيْلَا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِيْنَ}.
وعَنْ عَمْروِ بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيْهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يُحْشَرُ المُتَكَبِّرُوْنَ أمْثَالَ الذَّرِّ في صُوَرِ الرِّجَالِ يَغْشَاهُمْ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ يُسَاقُوْنَ إلَى سِجْنِ في جَهَنَّمْ يُقَالُ لَهُ بُوْلُسْ تَعْلُوْهُمْ نَارُ الأنْيَارِ يُسْقَون َمِنْ عُصَارَةِ أهْلِ النَّارِِ طِيْنَةِ الخَبالِ». رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَالترْمِذِيْ وَاللّفْظُ لَهُ وَقَالَ: حَدِيْثٌ حَسَنٌ.
مَتَى يَصِلِ العِطَاشُ إِلىَ ارْتِوَاءٍ ** إِذَا اسْتَقَت البِحَارُ مِنَ الرّكَايَا

وَمَنْ يَثنِ الأَصَاغِرَ عَنِ مُرَادٍ ** وَقَدْ جَلَسَ الأَكَابِرُ في الزَّوَايَا

وَإِنَّ تَرَفَّعَ الوُضَعَاءِ يَوْماً ** عَلَى الرُفَعَاءِ مِن إحدَى الرَّزَايَا

إِذَا اسْتَوَتْ الأَسَافِلُ والأَعَالِيْ ** فَقدْ طَابَتْ مُنَادَمَةُ المُنَايَا

آخر:
اعْلَمْ هُدِيْتَ وَخَيْرُ العِلْمِ أَنْفَعُهُ ** أَنًَّ اتبَاعَ الهَوى ضَرْبٌ مِنْ الخَبَلِ

وَالحَمْدُ لِلهِ رَبِّ العَالمَِيْنَ عَلى ُ ** إنْعَامِهِ وَتعالى اللهُ خَيْرُ وَلِيّ

فَكَمْ وَكَمْ ظَلَّ بالأَهْوَاءِ وَطَاعَتِها ** مِنْ عَاقِلٍ جَامِعٍ لِلْعِلْمِ وَالعَمَلِ

هُوَ الهَوَانُ كَمَا قَالُوا وَقد سُرقَت ** النُّوْنُ مِنْهُ فَجَانِبْهُ وَخُذْ وَمِلِ

وَأَقْبِلْ عَلى طَاعَةِ الرَّحْمَنِ وَالْزَمَهَا ** في كَلِّ حِيْنٍ وَلا تَخْلُدْ إِلَى الكَسَلِ

وَلا تُخَالِفْ لَهُ أَمْراً تَبَارَكَ مِنْ ** رَبٍّ عَظِيْمٍ وَسِرْ في أَقْوَمِ السُّبُلِ

وَخُذْ بِمَا فِي كِتَابِ اللهِ مُجْتَهِداً ** مُشْمِّراً وَاحْتَرِزْ مِنْ سَوْفَ وَالأَمَلِ

وَلا تُعَرِّجْ عَلى دَارِ الغُرُوْرِ وَدا ** والخُلُفِ وَالزُّوْرِ وَالنِّسْيَانِ لِلأَجَلِ

وَاحْذَرْ مُصَاحَبَةَ المَرْءِ المُضِيْعِ فَقَدْ ** صَارُوا إِلَى الشَّرِّ وَالعِصْيَانِ وَالزَّلَلِ

وَأَصْبَحُوا في زَمَانٍ كُلُّهُ فِتَنٌ ** وَبَاطِلٌ وَفَسَادُ بَيِّنٌ وَجَلِيْ

هُوَ الزَّمَانُ الذِي قَد كَانَ يَحْذَرُهُ ** أَئِمَّة الحَقِّ مِنْ حَبْرٍ ومِنْ بَدَلِيْ

هُوَ الزَّمَانُ الذِي لَا خَيْرَ فِيهِ وَلَا ** عُرْفٌ نَرَاهُ عَلَى التَّفْصِيْلِ وَالجُمَلِ

هُوَ الزَّمَانُ الذِي عَمَّ الحَرَامُ بِهِ ** وَالظُّلْمُ مِنْ غَيْرِ مَا شَكٍّ وَلا جَدَلِ

أَيْنَ القُرَآنُ كِتَابُ اللهِ حُجَّتُهُ ** وَأَيْنَ سُنَّةُ طَهَ خَاتَمِ الرُّسُل

وَأَيْنَ هُدْيُ رِجَالِ اللهِ مِنْ سَلَفٍ ** كَانَ الهُدَى شَأْنُهم في القَوْل وَالعَمَلِ

أَكُلُّ أَهْلِ الهُدَى وَالحَقِّ قَدْ ذَهَبُوا ** بالمَوْت أَمْ سُتُروا يَا صَاحِبْي فَقُلِ

وَالأَرْضُ لا تَخْلُو مِنْ قوْمٍ يَقُوْم بِهِمْ ** أَمْرُ الإِلهِ كَمَا قد جَاءَ فَاحْتَفِلِ

فَارْجُ الإلَهَ وَلا تَيْأَسْ وَانْ بَعُدَتْ ** مَطَالِبٌ إنَّ رَبَّ العَاَلِميْنَ مَلِيْ

وَفي الإلَهِ مَلِيْكِ العَالمَيِنَ غِنًى ** عَنْ كُلِّ شَيءٍ فَلازِمْ بَابَهُ وَسَلِيْ

هُوَ القَرِيْبُ المُجِيْبُ المُسْتَغَاثُ بِهِ ** قَلْ حَسْبِيَ اللهُ مَعْبُودِيْ وَمُتَّكَلِيْ

وَأَسْأَلُهُ مَغْفِرَةً وَاسْأَلهُ خَاتِمَةً ** حُسْنَى وَعَافِيَةً وَالجَبْرَ لِلْخَلَل

وَأَنْ يُوَفِّقَنَا لِلصَّالِحَاتِ وَمَا ** يُرْضِيْهِ عَنّا وَيَحْفَظْنَا مِنْ الخَطَلِ

وَأَنْ يُصَلّي عَلى المُخْتَارِ سَيِّدِنَا ** مُحَمِّدٍ مَا بَكَتْ سُحْبٌ بِمُنْهَمِلِ

وَالآلَ وَالصَّحْب مَا غَنَّتْ مُطَوَّقَةٌ ** عَلى الغُصُوْنِ فأشْجَتْ وَاجِداً وَخَلِيْ

اللهُمَّ ثَبِّتْ إِيْمَانَنَا ثُبُوتْ الِجبَال الرَّاسِيَاتِ وَوَفِّقْنَا لِلْعَمَل في البَاقِيَاتِ الصَالِحَاتِ وجَنِّبْنَا جَمِيْعَ الطُّرقِ المُردِيَاتِ وَزَحْزِحنَا عَنْ النّارِ وَأَدْخَلِنَا فَسِيْحَ الجَنَّاتِ يَا رَفِيْعَ الدَّرَجاتِ بِرَحْمَتِكَ التِيْ وَسعَتْ الأَحْيَاءَ وَالأَمْوَاتِ وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيْنَ.
فصل:
وَكَتَبَ عُمَرُ بن عبد العزيز رَحِمهُ اللهَ إلَى عُمَّالِهِ أَنْ لا يُقَيَّدَ مَسْجُوْنٌ فَإنَّهُ يَمْنَعُهُ مِنْ الصَّلاةِ وَكَتَبَ إلَى عُمَّالِهِ إِذَا دَعَتْكُمْ قُدْرَتُكُمْ عَلى النَّاسِ إِلَى ظُلْمِهِمْ فَاذْكُرُوا قُدْرَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَنَفَاذَ مَا تَأْتُونَ إِلَيْهِم وَبَقَاءَ مَا يَأْتيْ إِلَيْكُمْ مِنْ العَذَابِ بِسَبَبِهِمْ وَكَانَتْ حُجْزَةُ إزَارِهِ قَبْلَ الخِلَافَةِ غائِبَةً في عُكَنِهِ مِنْ الحَالِ فَلَمّا تَوَلَّيَ الخلِافَةِ ذَهَبَتْ تِلْكَ الحَالُ فلو شِئْتَ أنْ تَعُدَّ أَضْلَاعَهُ مِنْ غَيْرِ مَسٍّ لَعَدَدْتَهَا.
وَكانَتْ لَهُ غَلَّةٌ خَمْسِيْنَ أَلْفَ دِيْنَارٍ فَلمَّا وُلِيَ الخِلافة صَارَ يُنفِقُهَا كُلَّ حِينٍ حَتَّى مَا بقي لَهُ غَيْرُ قَمِيْص واحِدٍ لَا يَخْلَعُهُ حَتَّى يَتَّسِخَ فَإذَا اتَّسَخَ غَسَلَهُ وَمَكَثَ بِالبَيْتِ حَتَّى يَجِفَّ ثُمَّ يَلْبَسُهُ.
وَلَمَّا وَلِيَ خَيَّرَ جَوَارِيْهِ وَقَالَ قَدْ نَزَلَ بِيْ أَمْرٌ قَد شَغَلَنِيْ عَنْكُنَّ إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ وَحَتَّى يَفْرُغَ النَّاسُ مِنَ الحِسَابِ فَمَنْ أحَبَّتْ مِنْكُنّ عِتْقَها أَعْتَقْتُهَا وَمَنْ أَحَبَّتْ أَنْ أُمْسِكَهَا عَلى أَنْ لا يَكُوْنَ مِنِّيْ إلَيْهَا شَئٌ فَبَكَيْنَ وَارْتَفَعَ بُكَاؤُهُنَّ إِيَاساً مِنْهُ.
وَكَانَ يَخْطُبُ النَّاسَ بِقَمِيْصٍ مَرْقُوْعِ الجَيْبِ مِنْ قُدَّامْ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ.
فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ إنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَعْطَاكَ فَلَوْ لَبِسْتَ فَنَكَّسَ رَأسَهُ سَاعَةً ثمّ قالَ أفْضَلُ القَصْدِ عَن الجِدَةٍ وَأفْضَلُ العَفْوِ عَنْ المَقْدِرَةِ.
وَذَكَرَتْ زَوْجَتُه فَاطِمَةُ بِنْتُ عَبْدِالمَلِكِ أَنَّ عُمَرَ مَا اغْتَسَلَ عَنْ حُلُمٍ وَلا جَنَابَةٍ مُنْذُ وَلَى الخِلَافَةَ نَهَارُهُ في أَشْغَالِ النَّاسِ وَرَدِّ المَظالِم إلى أَهْلِهَا وَلَيْلُه في عِبَادَةِ رَبِّهِ.
وَقَالَ مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِالمَلِكِ دَخَلْتُ عَلى أَمِيْرِ المُؤْمِنِيْنَ عُمَرَ بْنِِ عَبْدِ العَزِيْزِ رَضيَ اللهُ عَنْهُ أَعُودُهُ في مَرَضِهِ الذِي مَاتَ فِيْهِ فَإذَا عَلَيْهِ قَمِيْصٌ وَسِخٌ فَقُلْتُ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ عَبْدِ المَلِكِ اغْسِلِيْ قَمِيْصَ أَمِيْرِ المُؤمِنِينَ فَقَالَتْ نَفْعَلُ إنْ شَاءَ اللهُ قَالَ مَسْلمَةُ ثُمَّ عُدْتُه فَإذَا القَمِيْصُ عَلى حَالِهِ فَقُلْتُ يَا فَاطِمَةَ أَلَمْ آمُرُكِ أَنْ تَغْسِلِيْ قَمِيْصَ أَمِير المؤمِنينَ فَإنَّ النَّاسَ يَعُوْدُوْنَهُ فَقَالَتْ وَاللهِ مَا لَهُ قَمِيْصٌ غَيْرُهُ وَكانَ رَحِمَهُ اللهُ كَثِيْراً مَا يَتَمَثَّلُ بِهَذِهِ الأَبْيَاتِ:
نَهَارُكَ يَا مَغْرُوْرُ سَهْوٌ وَغَفْلَةٌ ** وَلَيْلُكَ نَوْمٌ وَالرَّدَى لَكَ لَازِمُ

يَسُرُّكَ مَا يَفْنَى وَتَفْرَحُ بِالْمُنَى ** كَمَا غُرَّ بِاللَّذَاتِ فِي النَّوْمِ حَالِمُ

وَشُغْلُكَ فِيْمَا سَوْفَ تَكْرَهُ غِبَّهُ ** كذَلِكَ في الدُّنْيَا تَعِيْشُ البَهَائِمُ

وَفِعْلُكَ فِعْلُ الجَاهِلِيْنَ بِرَبِّهِمْ ** وَعُمْرُكَ في النُّقْصَانِ بَلْ أَنْتَ ظَالِمُ

فَلا أَنْتَ في اليَقْظَانَ يَقْظَان حَازِمُ ** وَلا أَنْتَ في النُّوَّامِ نَاجٍ وَسَالِمُ

فَلاَ تَحْمَدِ الدُّنْيَا وَلَكِنْ فَذُمَّهَا ** وَلا تَكْثِرِ العِصْيَانَ إنَّكَ ظَالِمُ

وَكَانَ يَقْوُلُ أدْرَكْنَا العُلَمَاءَ، وَالأُمَراءُ وَالسَّلاطِيْنُ يَأْتُونَهُمْ فَيَقِفُوْنَ عَلى أَبْوَابِ العُلَمَاءِ كَالعَبِيْدِ حَتَّى إذَا كَانَ اليَوْمُ رَأَيْنَا العُلَمَاءَ وَالفُقَهَاءَ وَالعُبَّادَ هُمَ الذِيْنَ يَأْتُونَ الأُمَراءَ والأغنِيَاءَ فلمَّا رَأَوْا ذَلِكَ مِنْهُمْ ازْدَرَوْهُمْ وَاحْتَقَرُوْهُمْ.
وَقَالُوا لَوْلاَ أَنَّ الذِيْ بِأَيْدِيْنَا خَيْرٌ مِمَّا بِأَيْدِيْهِم مَا فَعَلُوا ذَلِكَ مَعَنَا. وَنُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ إنَّ بَنِيْ إسْرَائِيْلَ لما كَانُوا عَلى الصَّوَابِ كَانَتْ الأمَرَاءُ تَحْتَاجُ إلى العُلَمَاءِ وَكَانَتْ العُلَمَاءُ تَفِرُّ بِدِيْنِهَا مِن الأُمَراءِ فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَوْمٌ مِنْ رُذَالَةِ النَّاسِ تَعَلَّمُوا ذَلِكَ العِلْمَ وَأَتَوْا بِهِ الأُمَراءَ فَاسْتَغْنَتْ بِهِ عَن العُلَمَاءِ وَاجْتَمَعَ القَوْمُ عَلى المَعْصِيَةِ فَسَقَطُوا وَانْتَكَسُوا، وَلَوْ كَانَ عُلَمَاؤُنَا يَصوْنُوْنَ عِلْمَهُمْ لَمْ تَزل الأُمَراءُ تَهابُهُمْ قُلْتُ: وَلِلهِ دَرُّ القَائِلِ:
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ العِلْمِ صَانُوْهُ صَانَهُمْ ** وَلَوْ عَظَّمُوْهُ في النُّفُوسِ لَعُظِّمَا

وَلَكِنْ أَهَانُوْهُ فَهَانُوا وَدَنَّسُوا ** مُحَيَّاهُ بِالاْطمَاعِ حَتَّى تَجَهَّمَا

فَإنْ قُلْتَ زَنْدُ العِلْمِ كَابٍ فَإنَّمَا ** كَبَى حَيْثُ لَمْ تُحْمَى حِمَاهُ وَأَظْلَمَا

آخر:
فَهُبُّوا أُهَيْلَ العِلْمِ مِنْ رَقْدَةِ الهَوَى ** وَمِيلُوا إلَى نَهْجِ الرَّشَادِ وَخَالِفُوْا

هَوَىَ النَّفْسِ إنَّ النَّفْسَ مِنْ أَكْبَرِ العِدَا ** وَلِلْعَبْدِ فِيْهَا إنْ أطَاعَ المَتَالِفُ

وَحُثُّوا مَطَايَا العَزْمِ في طَلب العُلَا ** فَقَدْ مَاتَ أهْلُوهُ الكِرَامُ السَّوَالِفُ

وَنَحْنُ إذَا مَاتُوْا نَمُوْتُ بِمَوْتِهِمْ ** إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنّا عَلى النَّهْجِ عَارِفُ

فَأَحْيُوا مَوَاتَ العِلْمِ مِنْكُمْ بِعَطْفَةٍ ** إلىَ العِلْمِ كَيْ تَحْيَا بِتِلْكَ الوَضَائِفُ

فَلَا خَيْرَ يُرْجَى في الحَيَاةِ عَلى الهَوَى ** إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيْنَا إلَى العِلْمِ صَارِفُ

بِضَاعَتُنَا المُزْجَاةُ فِيْهِ قَلِيْلَةٌ ** وَقَدْ كانَ فِيْنَا جِسْمُهُ وَهْوَ نَاحِفُ

وَعَمَّا قَلِيْلٍ سَوْفَ يُطْوَى سِجِّلَهُ ** وَتَذْهَبُ أرْبَابٌ لَهُ وَطَوَائِفُ

وَدَخَلَ عَلَى عُمَرَ مَسْلَمَةُ في مَرَضِهِ فَقاَلَ يَا أَمِيْرَ المُؤمنينَ إِنَّكَ أَفْقَرْتَ أَفْوَاهَ وَلَدِكَ مِنْ هَذَا المَالِ وَتَرَكْتَهُمْ عَيْلَةً لا شَئَ لَهُمْ فَلَوْ أَوْصَيْتَ بِهِمْ إلَى وَالٍ نَظَرَ إلَى أَهْلِ بَيْتِكَ فَقَالَ عُمَرُ أَسْنِدُوْنِيْ.
ثُمَّ قَالَ أَمَّا قَوْلُكَ إِنّيْ أَفْقَرْتُ أَفْوَاهَ وَلَدِيْ مِنْ هَذَا المَالِ فَوَاللهِ مَا مَنَعْتُهُمْ حَقًّا هُوَ لَهُمْ وَلَمْ أُعْطِهِمْ مَا لَيْسَ لهُمْ، وَأَمَّا قَوْلُكَ لَوْ أَوْصَيْتَ بِهِمْ فإنَّ وَصِيِّيْ وَوَلِيِّ فِيْهِمْ: {اللهُ الذي نَزَّلَ الكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّي الصّالِحِيْنَ}.
بَنِيّ أحَدُ رَجُلَيْنِ إمَّا رَجُلٌ يَتَّقِيْ اللهَ فَيَجْعَلُ لَهُ مَخْرَجًا وَإمّا رَجُلٌ مُكِبُّ عَلَى المَعَاصِيْ فَإنِّي لَمْ أَكُنْ أَقَوِّيْهِ عَلى المَعَاصِي.
ثُمَّ بَعَثَ إِلَيْهِمْ وَهُمْ بِضْعَة عَشَرَ ذَكَرَاً فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ فَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ ثُمَّ قَالَ بِنَفْسِيْ الفَتِيَةُ الذِيْنَ تَرَكْتُهُمْ عَيْلَةً لا شَئَ لَهُمْ فإنِّيْ بِحَمْدِ اللهِ قَدْ تَرَكْتُهُمْ بِخَيْر أيْ بَنِيّ إنّ أَبَاكُمْ قَدْ مَيَّزَ بَيْنَ أمْرَيْنِ بَيْنَ أنْ تَسْتَغْنُوْا وَيَدْخَلُ النَّارَ أَبُوكُمْ، أَو تَفْتَقِرُوا وَيَدْخُلُ أَبُوكُمْ الجَنّةَ، فَكَانَ أَنْ تَفْتَقِرُوا وَيَدْخُلُ الجَنّةَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ أنْ تَسْتَغْنُوا وَيَدْخُلُ النَّارَ قُوْمُوا عَصَمَكُمْ اللهُ.
وَذكَرَ ابْنُ أَبِيْ الدُّنْيَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ العزيْز لَمَّا كَانَ في اليَوْمِ الذِي مَاتَ فِيْهِ قَالَ أَجْلِسُونِيْ فأجْلَسُوهُ فَقالَ أنَا الذِيْ أَمَرْتَنِيْ فَقَصَّرْتُ وَنَهَيْتَنِيْ فَعَصَيْتُ ثَلاثَ مَرَّاتٍ وَلَكِنْ لاَ إلهَ إِلا اللهُ ثُمّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَأحَدّ النَّظَرَ فَقَالُوا إنَّكَ لتَنْظُرُ نَظَراً شَدِيْداً يَا أَمِيْرَ المُؤمِنينَ فَقَالَ إنِّيْ لأَرَيَ حَضَرَةً مَا هُمْ بِإنْسٍ وَلَا جِنٍْ ثُمَّ قُبِضَ رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ:
إذا شِئْتَ أَنْ تَرْثي فَقيْداً مِن الوَرَى ** وَتَدْعُوا لَهُ بَعْد النبي المُكَرَّمِ

فَلا تَبكِينْ إِلاَّ عَلىَ فَقْدِ عَالِمٍ ** يُبَادِرُ بالتَّفْهِيْمِ لِلْمُتَعَلِّمَ

وَفَقْدِ إِمَامٍ عَالِمٍ قَامَ مُلْكُهُ ** بأنْوَار حُكْمِ الشَرعِ لا بالتَّحَكُمِ

وفَقْدِ شُجَاعٍ صَادِقٍ في جِهادِهِ ** وَقد كُسِرَتْ رَايتُهُ في التَّقَدُمِ

وَفَقْدِ كَرِيْمٍ لا يَمَلُّ مِنْ العَطَا ** لِيُطْفِئَ بُؤسَ الفَقْرِ عن كُلّ مُعْدِم

وفَقْدِ تَقِيٍ زاهِدٍ مُتَوَرّعٍ ** مُطُيْعٍ لِرَبِّ العَالمَِيْنَ مُعَظمٍ

فَهُم خَمْسَةٌ يُبْكَى عَلَيْهِم وَغَيُرهُمْ ** إِلى حَيْثُ أَلْقَتْ رَحْلَهَا أمُ قَشْعَم

وَلَمْ أرَ أَمْثَالِ الرِجَالِ تَفَاوُتاً ** لَدَىَ الدِّيْنِ حَتَّى عُدَّ أَلْفٌ بِوَاحِدِ

آخر:
تَفَرَّدَ بالْعَلْيَاءِ عَن أَهْل بَيْتِهِ ** وَذَاكَ بِتوَفْيقٍ مِن اللهِ وَافِدُ

وَتخَتْلَفُ الأَثْمارُ في شجَرَاتهَا ** إِذَا شَرِبَتْ بِاْلماءِ وَالماءِ وَاحِد

إشارة إلى قول الله جَلَ وعَلَا: {يُسْقى بِماءَ واحَدِ ونفضِل بعضَها على بعضٍ في الأُكَلْ}.
فصل:
وَرَوَى سُفْيَانُ الثَّوْرِيّ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيْزِ لِابْنِهِ عَبْدِ الملكِ وَهُوَ مَرِيْضٌ كَيْفَ تَجِدُكَ قَالَ في المَوْتِ قَالَ: لأنْ تكُونَ في مِيْزَانِيْ أحَبُّ إليَّ أنْ أكوُنَ في مِيْزَانِكَ فَقَالَ لَهُ: واللهِ يَا أبتِ لأَنْ يَكونَ مَا تُحِبُّ أَحَبُّ إليَّ مِنْ أنْ يَكُونَ مَا أُحِبُّ.
قِيْلَ فَلَمَّا مَاتَ ابْنُه عَبْدُالْمَلِكِ قَالَ عُمَرُ يَا بُنَيَّ لَقَدْ كُنْتَ في الدُّنْيَا كَمَا قَالَ اللهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {المالُ وَالبَنُونَ زِيْنَةُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا} وَلَقَدْ كُنْتَ أفْضَلَ زِيْنَتِهَا وَإِنّيْ لأَرجو أنْ تَكُوْنَ اليَوْمَ مِنْ البَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ التِيْ هِيَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ أمَلاً وَاللهِ مَا سَرَّنِيْ أنْ دَعَوْتُكَ مِنْ جَانِبٍ فَأجَبْتَنِيْ.
وَلما دَفَنَهُ قَامَ عَلى قَبْرِهِ فَقَالَ: مَا زِلْتُ مَسْرُوراً بِكَ مُنْذُ بُشِّرْتُ بِكَ وَمَا كُنْتُ قَطُّ أسَرَّ إليَّ مِنْكَ اليَوْمَ ثُمَّ قَالَ: اللّهُمَّ اغِفْرْ لِعَبْدِ الملكِ بْنِ عُمَرَ وَلِمَنْ اسْتَغَفَرَ لَهُ.
وَلَمَّا قَامَ النَّاسُ لَهُ قَالَ: يَا مَعْشَرَ النَّاسِ إنْ تَقُومُوا نَقُمْ وَإنْ تَقْعُدُوْا نَقْعُدْ فَإنَّمَا يَقُوْمُ النَّاسُ لِرَبِّ العَالَمِيْنَ إنَّ اللهَ فَرَضَ فَرَائِضَ وَسَنَّ سُنَنَاً مَنْ أَخَذ بِهَا لَحَق وَمَنْ تَرَكَهَا مُحِقَ.
وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَصْحَبْنَا فَلْيَصْحَبْنَا بِخَْمسٍ يُوْصِلُ إِلَيْنَا حَاجَةَ مَنْ لا تَصِلُ إلَيْنَا حَاجَتُهُ، وَيَدُلُّنَا مِن العَدْلِ إلى مَا لا نَهْتَدِيْ إلَيْهِ، وَيَكُونُ عَوْنَاً لَنَا على الحَقِّ، وَيُؤَدِّيْ الأَمَانَة إليْنَا وَإلَى النَّاسِ وَلا يَغْتَبْ عَنْدَنَا أَحَداً، وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ فَهُوَ فِي حَرَجٍ مِنْ صُحْبَتِنَا وَالدُّخُولِ عَلَيْنا.
وَسُئِلَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ عَبْدِ المَلِكِ زَوْجَةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزيْز عَنْ عِبَادَةِ عُمَرَ فَقَالَتْ: وَاللهِ مَا كَانَ بأكْثَر النّاسِ صَلاَةًً وَلا أكثرَ صِيَامَاً وَلكِنْ وَاللهِ مَا رأيْتُ أخْوَفِ لِلهِ مِنْهُ لَقدْ كَانَ يَذْكُرُ اللهَ في فِرَاشِهِ فَيْنَتَفِضُ انْتِفَاضَ العُصْفُورِ مِنْ شِدَّةِ الخَوْفِ حَتَّى نَقوُل لُيصْبَِحَنَّ النّاسُ وَلا خَلِيْفَةَ لَهُمْ.
قَالَ: وَمَرَّ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزيز ذاتَ يَومٍ بِفَاطِمَةَ زَوْجَتِهِ فَضَرَبَ عَلى كَتِفِهَا وَقَالَ: يَا فَاطِمَةُ لنَحْنُ ليَالِيْ دَابِقَ أَنْعَمُ مِنَا اليَوْمَ؟ فَقالَتْ: وَاللهِ مَا كُنْتَ عَلى ذَلِكَ أَقْدَرَ مِنْكَ اليَوْمَ. فأدْبَرَ عنَهْا وَلَهُ حَنِيْنٌ وَهُوَ يَقُولُ: يَا فَاطِمَةُ إنَّيْ أَخافُ النَّارَ يَا فَاطِمَةُ: {إنِّيْ أخَافُ إنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيْمٍ}.
قَالَ: وَكَانَ عُمَرُ يُصَلِّي العَتَمَةَ ثُمَّ يَدْخُلُ عَلَى بَنَاتِهِ فَيُسَلِّمُ عَلَيْهنَّ فَدَخَلَ عَلَيْهنَّ ذاتَ لَيْلَةٍ فَلمَّا أحْسَسْنَهُ وَضَعْنَ أيْدِيَهُنَّ عَلى أفْوَاهِهِنَّ ثمَّ تَبَادَرْنَ البَابَ فَقالَ لِلْحاضِنَةِ: مَا شَأْنُهُنَّ؟ قَالَتْ: إنّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُنَّ شَئٌ يَتَعَشَّيْنَهُ إلْا عَدَسٌ وَبَصَلٌ فَكَرِهْنَ أَنْ تَشُمَّ ذَلِكَ مِنْ أَفْوَاهِهِنَّ. فَبَكَى عُمَرُ ثُمَّ قَالَ لَهُنَّ يَا بَنَاتِيْ مَا يَنْفَعُكُنَّ أنْ تَعيَشنَ الألَوانَ وَيُؤْمَرُ بِأَبِيْكُنَّ إلَى النَّارِ قَالَ: فَبَكْينَ حَتَّى عَلَتْ أصْوَاتُهُنَّ ثُمَّ أنْصَرَفَ.
وَجَاءَتْ عَمَّةٌ لَه إلَى فَاطِمَةَ امْرَأته فَقَالتْ: إنَّيْ أُرِيْدُ كَلَامَ أَمِيرِ المُؤمنينَ قَالتْ لَهَا اجِلْسِيْ حَتَّى يَفْرُغَ فَجَلَسَتْ فإذا بِغُلامٍ قَدْ أتَى فَأخَذَ سِرَاجاً. فَقَالَت لهَا فَاطِمَةُ: إنْ كُنْتِ تُريدينَه فالآن فَإنه إذَا كَانَ في حَوَائِجِ العَامَّةِ كَتَبَ عَلى الشَّمْعِ وَإذا صَارَ إلَى حَاجَةِ نَفْسِهِ دَعَا بِسِرَاجِهِ.
فَقَامَتْ فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ فَإذَا بَيْنَ يَدَيْهِ أقْرَاصٌ وَشَئٌ مِنْ مِلْحٍ وَزَيْتٍ وَهُوَ يَتَعَشَّى فَقَالَتْ يَا أَمِيرِ المُؤمِنينَ أَتَيْتُ لِحَاجَةٍ لِيْ ثمَّ رَأَيْتُ أنْ أبْدَأ بِكَ قَبْلَ حَاجِتِيْ قَالَ: َومَا ذَاكَ يَا عَمَّةُ؟ قَالَتْ: لَوْ اتَّخَذْتَ لَكَ طَعَاماً أَلْيَنَ مِنْ هَذا؟ قَالَ: لَيْسَ عِنْدِيْ يَا عَمَّةُ وَلَوْ كَانَ عِنْدِيْ لَفَعَلْتُ.
قَالَتْ: يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ كَانَ عَمُّكَ عَبْدُ الَمَلِكِ يُجْرِيْ عَلَيَّ كَذَا وَكَذَا ثُمَّ كَانَ أخَوْكَ الوَلَيْدُ فَزَادَنِيْ ثُمَّ كَانَ أخْوكَ سُلْيَمَانُ فَزَادَنِيْ ثُمَّ وَلِيْتَ أنْتَ فَقَطَعْتَهُ عَنّيْ قَالَ: يَا عَمَّةُ إنَّ عَمِّيْ عَبد المَلِكِ وَأخِيْ الوَلِيْدِ وَأَخِيْ سُلْيَمَانُ كَانُوا يُعْطُوْنَك مِنْ مَالِ المُسْلِمِيْنَ.
وَكَانَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ المَلِكِ قَدْ أَمَرَ لِعَنْبَسَةَ بْنِ سَعدٍ بنِ العَاصِ مِنَ البَيْتِ الأمَوِيّ بِعِشْرْينَ ألْفِ دِيْنَارٍ فَدَارَتْ المُعَامَلةُ في الدّواوِيْنِ حَتَّى انْتَهتْ إلى دِيْوَانِ الخَتْمِ فَلمْ يَبْقَ إلّا قَبْضُهَا فتوُفِيَ سُلَيْمَانُ قَبْلَ أنْ يَقبِضَهَا.
وَكانَ عَنْبَسَةُ صَديقاً لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيْزِ فَغَدَا يَطْلُبُ مِنْ عُمَرَ مَا أمَر لَهُ بِهِ سُليْمَانُ فَوَجَدَ بنِيْ أُميّة حُضُوْراً بِبَابِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيْزِ يُرِيْدُوَنَ الإِذْنَ عَليْهِ لِيُكَلِّمُوهُ في أُمُوْرِهِمْ فلَمَّا رأو صَدِيْقَ عُمَر عَنْبَسَةَ قَالُوا: نَنْتَظِر مَاذا يَعْمَلُ مَعَهُ قَبْلَ أنْ نُكَلِّمَهُ.
فَدَخَلَ عَنْبَسَةُ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ: يَا أَميرَ المُؤْمِنِيْنَ إنَّ أَمِيرَ الْمُؤمِنينَ سُلَيْمَانُ كانَ قدْ أَمَرَ لِيْ بعِشْرِيْنَ أَلْفِ دِيْنَارٍ حَتَّى وَصَلَتْ إلَى دِيْوَانِ الخَتْمِ وَلَمْ يَبْقَ إلا أنْ أقْبِضَهَا فَتُوفيَ قَبْلَ أنْ أقْبِضَهَا وأميرُ المُؤْمِنينَ أوْلَى بِاسْتِتْمَامِ الصَّنِيعَةِ عِنْدِي وَمَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ أَعْظَمُ مِمَّا كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ أَمِير الْمُؤْمِنِينَ سُلَيْمَانُ.
فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: كَمْ ذَلِكَ؟ قَالَ: عُشْرُونَ أَلْفِ دِينَارِ. قَالَ عُمَرُ: عِشْرُونَ أَلْفِ دِينَارٍ تُغْنِي أَرْبَعَةَ آلافِ بَيْتٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَدْفَعُهَا إِلى رَجُلٍ وَاحِدٍ وَاللهِ مَا لِي إِلى ذَلِكَ مِنْ سَبِيلٍ.
قَالَ عَنْبَسَةُ: فَرَمَيْتُ بِالْكِتَابِ الذِي فِيهِ الصَّكُّ. فَقَالَ عُمَرُ: لا عَلَيْكَ أَنْ يَكُونَ مَعَكَ فَلَعَلَّهُ أَنْ يَأْتِي مَنْ هُوَ أَجْرَأُ عَلَى هَذَا الْمَالِ مِنِّي فَيَأْمرَ لَكَ بِهِ. فَأَخَذْتُهُ وَخَرَجْتُ إِلى بَنِي أُمَيَّةَ وَأَعْلَمْتُهم مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَوا: لَيْسَ بَعْدَ هَذَا شَيْءٌ ارْجِعْ إِلَيْهِ فَاسْأَلْهُ أَنْ يَأْذَنَ لَنَا فِي الْبُلْدَانِ.
فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ قَوْمَكَ بِالْبَابِ يَسْأَلُونَكَ أَنْ تُجْرِي عَلَيْهِمْ مَا كَانَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِكَ. فَقَالَ عُمَرُ: وَاللهِ مَا هَذَا الْمَالُ لِي وَمَا لِي إِلى ذَلِكَ مِنْ سَبِيلٍ.
قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَيَسْأَلُونَكَ أَنْ تَأْذَنَ لَهُمْ يَضْرِبُوا فِي الْبُلْدَانِ. قَالَ: مَا شَاءوا ذَلِكَ لَهُمْ وَقَدْ أَذِنْتُ لَهُمْ. قُلْتُ: وَأَنَا أَيْضًا؟ قَالَ: وَأَنْتَ أَيْضًا قَدْ أَذِنْتُ لَكَ وَلَكِنِّي أَرَى لَكَ أَنْ تُقِيمَ فَإِنَّكَ رَجُلٌ كَثِيرُ النَّقْدِ وَأَنَا أَبِيعُ تَرِكَةِ سُلَيْمَانَ فَلَعَلَّكَ تَشْتَرِي مِنْهَا مَا يَكُونُ لَكَ فِي رِبْحِهِ عِوَضٌ مِمَّا فَاتَكَ.
قَالَ: فَأَقَمْتُ فَاشْتَرَيْتُ مِنْ تَرِكَةِ سُلَيْمَانَ بِمَائَةِ أَلْفٍ فَخَرَجْتُ بِهَا إِلى الْعِرَاقِ فَبِعْتُهَا بِمَائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ وَحَبَسْت الصَّكَّ فَلَمَّا تُوُفِّيَ عُمَرُ وَوَلِيَ يَزِيدُ بنُ عَبْدِ الْمَلِكِ أَتَيْتُه بِكِتَابِ سُلَيْمَانَ فَأَنْفَذَ لِي مَا كَانَ فِيهِ.
وَكَانَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَنْظُرُ لَيْلاً فِي أَحْوَالِ الرَّعِيَّةِ فِي ضَوْءِ السِّرَاجِ فَجَاءَ غُلامٌ لَهُ فَحَدَّثَهُ فِي شَأْنٍ خَاصٍّ بِعُمَرَ فَقَالَ عُمَرُ لِلْغُلامِ:
أطْفِئْ سِرَاجَ بَيْتِ الْمَالِ ثُمَّ حَدِّثْنِي لأَنَّ الدُّهْنَ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ وَلا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُه إِلا فِي أَشْغَالِ الْمُسْلِمِينَ.
وَعَنْ الْفِهْرِيٌّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَقْسِمُ تُفَّاحَ الْفِيء فَتَنَاوَلَ ابْنُهُ تُفَّاحَةً فَانْتَزَعَهَا مِنْهُ عُمَرُ وَأَوْجَعَ فَمَّهُ فَسَعَى إِلى أُمِّهِ فَأَرْسَلَتْ إِلى السُّوقِ وَاشْتَرَتْ لَهُ تُفَّاحًا.
فَلَمَّا رَجَعَ عُمَرُ وَجَدَ رِيحَ التُّفَاحِ فَقَالَ لِزَوْجَتِهِ فَاطِمَةُ: هَلْ فِي الْبَيْتِ شَيْءٌ مِنْ هَذَا الْفِيءِ؟ قَالَتْ: لا وَقَصَّتْ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ فَقَالَ: وَاللهِ لَقَدْ انْتَزَعَتْهُا مِنْ ابْنِي وَكَأَنَّمَا انْتَزَعْتُهَا مِنْ قَلْبِي وَلَكِنْ كَرِهْتُ أَنْ أُضِيعَ نَفْسِي بِتُفَّاحَةٍ مِنْ فِيءِ الْمُسْلِمِينَ.
وَذُكِرَ أَنَّهُ كَانَ فِي زَمَنِ عُمَر بن عَبْدِ الْعَزِيزِ قَحْطٌ عَظِيمٌ فَوَفَدَ عَلَيْهِ قَوْمٌ مِن الْعَرَبِ فَاخْتَارُوا مِنْهُمْ رَجُلاً لِخِطَابِهِ.
فَقَالَ ذَلِكَ الرَّجُلُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّا أَتَيْنَاكَ مِنْ ضَرُورَةٍ عَظِيمَةٍ وَقَدْ يَبِسَتْ جُلُودُنَا عَلَى أَجْسَادِنَا لِفِقْدِ الطَّعَامِ وَرَاحَتُنَا فِي بَيْتِ الْمَالِ.
وَهَذَا الْمَالُ لا يَخْلُو مِنْ ثَلاثَةِ أَقْسَام. إِمَّا أَنْ يَكُونَ للهِ. أَوْ لِعِبَادِ اللهِ. أَوْ لَكَ فَإِنْ كَانَ للهِ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ لِعِبَادِ اللهِ فَآتِهِمْ إِيَّاهُ.
وَإِنْ كَانَ لَكَ فَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْنَا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ.
فَتَغَرْغَرَتْ عَيْنَا عُمَرَ بنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِالدُّمُوعِ وَقَالَ: هُوَ كَمَا ذَكَرْتَ وَأَمَرَ بِحَوَائِجِهِمْ فَقُضِيَتْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ.
فَهَمَّ الأَعْرَابِيُّ بِالْخُرُوجِ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَيُّهَا الإِنْسَانُ الْحُر كَمَا أَوْصَلْتَ إِلَيَّ حَوَائِجَ عِبَادِ اللهِ وَأَسْمَعْتَنِي كَلامَهُمْ فَأَوْصِلْ كَلامِي وَارْفَع حَاجَتِي إِلى اللهِ تَعَالى.
فَحَوَّلَ الأَعْرَابِيُّ وَجْهَهُ قِبَلَ السَّمَاءِ. وَقَالَ: إِلَهِي اصْنَعْ مَعَ عُمَرَ بنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَصَنِيعَهِ فِي عِبَادِكَ فَمَا اسْتَتَمّ الأَعْرَابِيُّ كَلامَهُ حَتَّى ارْتَفَعَ غَيمٌ فَأَمْطَرَ مَطَرًا غَزِيرًا.
وَكَانَ لِعُمَرَ بنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ غُلامٌ وَكَانَ خَازِنًا لِبَيْتِ الْمَالِ وَكَانَ لِعُمَرَ بَنَاتٌ فَجِئْنَهُ يَوْمَ عَرَفَةً وَقُلْنَ لَهُ: غَدًا الْعِيدُ وَنِسَاءُ الرَّعِيَّةَ وَبَنَاتُهُمْ يَلُمْنَنَا وَيَقُلْنَ: أَنْتُنَّ بَنَاتُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَنَرَاكُنَّ عَرِيَانَاتٍ لا أَقَلَّ مِنْ ثِيَابِ تَلْبَسْنَهَا وَبَكَيْنَ عِنْدَهُ فَضَاقَ صَدْرُ عُمَرَ فَدَعَا غُلامَهُ الْخَازِنَ وَقَالَ لَهُ: أَعْطِنِي مُشَاهَرَتِي لِشَهْرٍ وَاحِدٍ.
وَقَالَ الْخَازِنُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ تَأَخْذُ ُالْمُشَاهَرَةِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ سَلَفًا أَتَظُنَّ أَنَّ لَكَ عُمْرَ شَهْرٍ فَتَأْخُذُ مُشَاهَرَةَ شَهْرٍ فَتَحَيَّرَ عُمَرُ.
وَقَالَ: نِعَمْ مَا قُلْتَ أَيُّهَا الْغُلامُ بَارَكَ اللهُ فِيكَ. ثُمَّ الْتَفَتَ إِلى بَنَاتِهِ وَقَالَ: أَكْظِمْنَ شَهَوَاتِكُنَّ فَإِنَّ الْجَنَّةَ لا يَدْخُلُهَا أَحَدٌ إِلا بِمَشَقَّةٍ.
سُئِلَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ مَا كَانَ سَبَبَ تَوْبَتِكَ قَالَ: كُنْتُ أَضْرِبُ يَوْمًا غُلامًا فَقَالَ لِي: اذْكُرْ اللَّيْلَةَ الَّتِي تَكُونُ صَبِيحَتُهَا الْقِيَامَةَ فَعَمِلَ ذَلِكَ الْكَلامُ فِي قَلْبِي.
رَأَى بَعْضُ الأَكَابِر هَارُونَ الرَّشِيدَ فِي عَرَفَات وَهُوَ حَافٍ حَاسِرٌ قَائِمٌ عَلَى الرَّمْضَاءِ الْحَارِةِ.
وَقَدْ رَفَعَ يَدَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ: إِلَهِي أَنْتَ أَنْت وَأَنَا أَنَا الذِي دَأْبِي كُلَّ يَوْم أَعُودُ إِلى عِصْيَانِكَ وَدَأْبُكَ أَنْ تَعُودَ إِلَيَّ بِرَحْمَتِكَ.
فَقَالَ بَعْضُ الْكُبَرَاءِ: انْظُرُوا إِلى تَضَرُّعِ جَبَّارِ الأَرْضِ بَيْنَ يَدَيْ جَبَّارِ السَّمَاءِ.
سَأَلَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَوْمًا أَبَا حَازِمٍ الْمَوْعِظَةَ فَقَالَ لَهُ أَبُو حَازِمٍ: إِذَا نِمْتَ فَضِعْ الْمَوْتَ تَحْتَ رَأْسِكَ.
وَكُلُّ مَا أَحْبَبْتَ أَنْ يَأْتِيكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَيْهِ مُصِّرُ فَأَلْزَمْهُ وَكُلُّ مَا لا تُرِيدُ أَنْ يَأْتِيكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَيْهِ فَاجْتَنِبْهُ فَرُبَّمَا كَانَ الْمَوْتُ مِنْكَ قَرِيبًا.
فَيَنْبَغِي لِصَاحِبِ الْوِلايةِ أَنْ يَجْعَلَ هَذِهِ الْحِكَايَةَ نَصْبَ عَيْنَيْهِ وَأَنْ يَقْبَلَ الْمَوَاعِظَ الَّتِي وُعِظَ بِهَا غَيْرُهُ.
فَكُلَّمَا رَأَى عَالِمًا عَامِلاً بِعَلْمِهِ لَيْسَ مِنْ عُلَمَاءِ الدُّنْيَا زَاهِدًا فِيهَا عَلَى طَرِيقَةِ السَّلَفِ الصَّالِحِ سَأَلَهُ أَنْ يَعِظَهُ.
وَيَنْبَغِي لِلْعُلَمَاءِ أَنْ يَعِظُوا الْمُلُوكَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْمَوَاعِظِ وَلا يَغُروهُمْ وَلا يَدَّخِرُوا عَنْهُمْ كَلِمَةَ الْحَقِّ وَكُلُّ مِنْ غَرَّهُمْ فَهُوَ مُشَارِكٌ لَهُمْ.
وعن الفضل بن الربيع حاجب هارون الرشيد قَالَ: أرسل إليَّ الرشيد ذاتَ ليلة فحضرتُ إليه فلما دخلتُ عليه وجَدْتُ بين يديه ضبارة سيوف وأنوع من آلات العذاب.
فقَالَ: يا فضل. فَقُلْتُ: لَبَّيْكَ َيا أمير المؤمنين. فَقَالَ: عَلَيَّ بِهَذَا الْحِجَازِي يعني الشافعي رضي الله عنه وهو مُغْضَبٌ الساعةَ الساعةَ.
فخرجتُ وبي مِن الغم والحزن ما لا يُوصَف لِمَحَبَّتِي للشافعي لفصاحته وبراعته وبلاغته وعقله فجئْتُ إلى بابه.
فأمَرْتُ مَن دَقَّ عليه البابَ فَتَنَحْنَحَ فَعَلِمْتُ أَنَّهُ يُصَلِّي فَوَقَفْتُ حتى فَرِغَ مِنْ صَلاتِهِ وَفَتَحَ البابَ فَسَلَّمْتُ عليه.
وقلْتُ لَهُ: أَجِبْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فقَالَ: سَمْعًا وَطَاعَةً وَجَدَّدَ الْوُضُوءَ وَارْتَدَى وَرَكَعَ رَكَعْتَيْنِ وَخَرَجَ يَمْشِي فَمِنْ شَفَقَتِي عَلَيْهِ قُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ قِفْ لِتَسْتَرِيحَ بَيْنَمَا أَسْتَأْذِنُ.
فَدَخَلْتُ عَلى أمير المؤمنين فإذا هُوَ على حَالِهِ فِي غَضَبِهِ فَلَمَّا رَآنِي قَالَ: أَيْنَ الْحِجَازِي؟
قُلْتُ: عِنْدَ السِّتْرِ. فَقَالَ: مُرْهُ بِالدُّخُولِ. فَجِئْتُ إِلَيْهِ وَأَمَرْتُهُ بِالدُّخُولِ.
فَدَخَلَ يَمْشِي مُطْمَئِنًا غَيْرَ فَزَعٍ وَلا خَائِفٍ وَلا قَلِقٍ وَلا مُنْزَعِج ثُمَّ بَدَأَ يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ وَوَجْهُهُ مُسْتَنِير.
فَلَمَّا دَخَلَ وَبَصُرَ بِهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ قَامَ إِلَيْهِ قَائِمًا وَاسْتَقْبَلَهُ وَاعْتَنَقَهُ وَجَعَلَ يُقَبِّلُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَهَشَّ بِهِ وَبَشَّ.
وَقَالَ: مَرْحَبًا بِأَبِي عَبْدِ اللهِ لِمَ لا تَزُورَنَا وَتَكُونَ عِنْدَنَا فَإِنِّي إِلَيْكَ مِشْتَاقُ وَأَجْلَسَهُ مَكَانَهُ وَقَعَدَ إِلى جَانِبِهِ وَتَحَدَّثَ مَعَهُ سَاعَةَ.
ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِبَدْرَةٍ مِن الذَّهَبِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لا أَرَبَ لِي فِيهِ فَسَأَلَهُ أَنْ يَقْبَلَهُ فَقَبِلَهُ غَيْرَ مُكْثَرِتٍ بِهِ يَعْنِي مَا هَمُّهُ.
ثُمَّ أَمَرَنِي أَنْ أَرُدَّهُ إِلى دَارِهِ وَأَنْ تُحْمَلَ الْبَدْرَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَّمَا خَرَجْنَا جَعَلَ يَعْطِي كُلَّ مَنْ رَآهُ وَكُلَّ مَنْ سَأَلَهُ يَمِينًا وَشِمَالاً حَتَّى وَصَلَ إِلى مَنْزِلِهِ وَمَا مَعَهُ مِنْهَا شَيْء.
فَلَمَّا دَخَلَ مَنْزِلَهُ وَاطْمَأَنَّ بِهِ الْجُلُوسُ قَعَدْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ قَدْ عَرَفْتَ مَحَبَّتِي لَكَ وَشَفَقَتِي عَلَيْكَ وَإِنِّي شَاهَدْتُ غَضَبَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينِ فِي ابْتِدَاءِ طَلَبَهِ إِيَّاكَ.
ثُمَّ لَمَّا دَخَلْتَ عَلَيْهِ رَأَيْتُ مِنْهُ مِنَ التَّوَاضِعِ وَالتَّوَدُدِ وَالإِجْلالِ وَالإِكْرَامِ لَكَ مَا سَرَّنِي وَكُنْتُ رَأَيْتُكَ حَرَّكْتَ شَفَتَيْكَ عِنْدَ دُخُولِكَ عَلَيْهِ.
فَبِالَّذِي سَكَّنَ غَضَبَهُ عَلَيْكَ وَسَخَّرَهُ إِلا مَا عَلَّمْتَنِي مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي دُخُولِكَ مَعِي عَلَيْهِ.
فَقَالَ: حَدَّثَنِي نَافِعُ عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأه يَوْمَ الأحزابِ فَهَزَمَهُمُ اللهُ ونصرهم على عدوهم.
وَهُوَ هَذَا: {شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ} ثم قَالَ: وأنا أَشْهَدُ بِمَا شَهِدَ بِهِ اللهِ وَأَسْتَوْدِعُ اللهَ هَذِهِ الشَّهَادَةِ وَدِيعَةٌ لِي عِنْدِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِنُورِ قُدْسِكَ وَعَظِيمِ بَرَكَتِكَ وَعَظَمَةِ طَهَارَتِكَ وَبَرَكَةِ جَلالَتِكَ مِنْ كُلِّ آفَةٍ وَعَاهَةٍ.
وَمِنْ طَوَارِقِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِلا طَارِقًا يَطْرُقُ بِخَيْرِ يَا رَحْمَن.
اللَّهُمَّ أَنْتَ غِيَاثِي فَبِكَ اسْتَغِيثُ وَأَنْتَ مَلاذِي فَبِكَ أَلُوذُ وَأَنْتَ عِيَاذِي فَبِكَ أَعُوذُ يَا مَنْ ذَلَّتْ لَهُ رِقَابُ الْجَبَابِرَةِ وَخَضَعَتْ لَهُ أَعْنَاقُ الْفَرَاعِنَةِ.
أَعُوذُ بِكَ مِنْ خِزْيِكَ وَمِنْ كَشَفْ سِتْرِكَ وَمِنْ نِسْيَانِ ذِكْرِكَ وَالانْصِرَافِ عَنْ شُكْرِكَ.
أَنَا فِي حِرْزِكَ وَتَحْتَ كَنَفِكَ لَيْلِي وَنَهَارِي وَنَوْمِي وَقَرَارِي وَظَعْنِي وَأَسْفَارِي وَحَرَكَاتِي وَسَكَنَاتِي وَحَيَاتِي وَمَمَاتِي وَجَمِيعِ سَاعَاتِي وَأَوْقَاتِي.
ذِكْرُكَ شِعَارِي وَثَنَاؤكَ دِثَارِيَ أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ وَلا إِلَهَ غَيْرُكَ وَلا مَعْبُودَ سِوَاكَ.
سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ تَشْرِيفًا لِعَظَمَتِكَ وَتَكْرِيمًا لِسُبُحَاتِ وَجْهِكَ وَإِقْرَارًا بِصَمْدَانِيَّتِكَ.
وَاعْتِرَافًا بِوَحْدَانِيَّتِكَ وَتَنْزِيهًا لَكَ عَمَّا يَقُولُ الْكَافِرُونَ وَالظَّالِمُونَ وَالْجَاحِدُونَ تَعَالَيْتَ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
اللَّهُمَّ أَجِرْنِي مِنْ خِزْيِكَ وَمِنْ شَرِّ عِبَادِكَ وَاضْرِبْ عَلَيَّ سَرَادِقَاتِ حِفْظِكَ وَأَدْخِلْنِي فِي حِفْظِكَ وَعَنَايتكَ وَجُدْ عَلَيَّ مِنْكَ بِخَيْرٍ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
إِلَهِي كَيْفَ أَخَافُ وَأَنْتَ أَمَلِي أَمْ كَيْفَ أَضَامُ وَعَلَيْكَ تَوَكُّلِي أَمْ كَيْفَ أَقْهَرُ وَأَنْتَ عِمَادِي أَمْ كَيْفَ أَغْلَبُ وَعَلَيْكَ فِي كُلِّ الأُمُورِ اعْتِمَادِي ضَرَبْتُ وَجْهَ كُلِّ حَاسِدٍ وَحَسَدَ وَرَاصِدٍ رَصَدَ وَظَالِمٍ كَنَدَ بـ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}.
وَفِي مُسْنَدِ الإِمَامِ أَحْمَد وَصَحِيحِ ابْنُ حِبَّانِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بن مَسْعُود مَرْفُوعًا: «مَا أَصَابَ عَبْدٌ هَمٌّ وَلا غَمٌّ وَلا حُزْنٌ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ بن عَبْدُكَ بن أَمَتُكَ نَاصِيَتِي بِيَدِكَ مَاضٍ فِي حُكْمُكَ عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ. أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ أَوْ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدِكَ. أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي وَنُورَ صَدْرِي وَجَلاءَ حُزْنِي وَذَهَابَ هَمِّي. إِلا أَذْهَبَ اللهُ حُزْنَهُ وَهَمَّهُ وَابْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَحَاً».
وَمِنْ أَدْعِيَةِ الْمُضْطَرِينَ يَا وَدُود يَا ذَا الْعَرْشِ الْمَجِيدِ يَا مُبْدِئُ يَا مُعِيدُ يَا فَعَّالٌ لِمَا تُرِيدُ أَسْأَلُكَ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي مَلاءِ أَرْكَانَ عَرْشِكَ وَبقُدْرَتِكَ الَّتِي قدرتَ بِهَا عَلَى جَمِيعَ خَلْقِكَ وَبِرَحْمَتِكَ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ لا إِله إِلا أَنْتَ يَا مُغِيثُ أغِثْنِي اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنَّا يَسِيرَ الأَعْمَالِ، وَهَبْ لَنَا إِسَاءَتنا فِي الأَقْوَالِ وَالأَفْعَالِ وَسَامِحْنَا عَنِ الْغَفْلَةِ وَالإِهْمَالِ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
فصل:
دَعَا الْمَنْصُور أَبَا حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِي وَمِسْعرًا وَشَرِيكَا لِيُوَلِّيَهُم الْقَضَاء.
فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَنَا أَتَحَامَقُ فَأُقَالَ وَأتَخَلَّص.
وَأَمَّا مِسْعَرُ فَيَتَجَان أَيْ يُظْهِرُ كَأَنَّهُ مَجْنُون وَيَتَخَلَّصَ.
وَأَمَّا سُفْيَان فَيَهْرَب.
وَأَمَّا شَرِيكُ فَيَقَعُ فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى الْمَنْصُور قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَنَا رَجُلٌ مَوْلى وَلَسْتُ مِن الْعَرَب.
وَلا تَكَادُ الْعَرَبُ تَرْضَى بَأَنْ يَكُونَ عَلَيْهِمْ مَوْلَى وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنِّي لا أَصْلَحُ لِهَذَا الأَمْرِ فَإِنْ كُنْتُ صَادِقًا فِي قَوْلِي فَلا أَصْلِحُ لِلْقَضَاءِ.
وَإِنْ كُنْتُ كَاذِبًا فَلا يَجُوزُ لَكَ أَنْ تُوَلِّي كَاذِبًا دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالَهُمْ وَفُرُوضَهُمْ.
وَأَمَّا سُفْيَانُ فَأَدْرَكَهُ الْمُشْخِصُ فِي طَرِيق فَذَهَبَ لِحَاجَتِهِ فَانْصَرَفَ الْمُشْخِصُ يَنْتَظِرُ فَرَاغَهُ.
فَرَأَى سُفْيَانُ سَفِينَةٌ فَقَالَ لِلْملاح قَائِد السَّفِينة: إِنْ مَكَّنْتَنِي مِنْ سَفِينَتِكَ وَإِلا ذُبِحْتُ بِغَيْرِ سِكِّين.
تَأَوَّلَ قَوْلَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم: «مِنْ وُلِيَ الْقَضَاءَ فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّين». فَأَخْفَاهُ الْملاحُ تَحْتَ السَّارِيَة.
وَأَمَّا مِسْعَرُ ابن كُدَام فدخل على الْمنصور فقَالَ له: هَاتِ يَدَكَ كَيْفَ أَنْتَ وَالدَّوَاب وَالأَولاد فَقَالَ: أَخْرِجُوه فإنه مجنون.
وَأَمَّا شريك فقَالَ له المنصور: تَقَلَّدْ فقَالَ له: أنا رجلٌ خَفِيفُ الدِّمَاغ فقَالَ: تَقَلَّد وعليك بالنَّبِيذ الشديد حتى يرجع إليكَ عَقْلُكَ فَتَقَلَّدَ.
فَهَجَرَهُ الثوري وَقَالَ له: أمْكَنَكَ الْهَرَبُ فَلَمْ تَهْرِبْ.
وكتب الخليفة إلى عبد الله بن وهب في قَضَاءِ مِصْرَ فَتَجَنَّنَ نَفْسَهُ وَلَزِمَ بَيْتَهُ فاطَّلَعَ عليه راشد بن سَعْدٍ وَهُوَ يَتَوَضَأُ فِي صَحْنَ دَارِهِ.
فقَالَ: أبا محمد ألا تَخْرُجُ إلى الناس فَتَقْضِي بَيْنَهُم بكتاب الله وَسُنَّةِ رسوله صلى الله عليه وسلم فقد جَنَنْتُ نَفْسَكَ وَلَزِمْتَ بَيْتَكَ.
فَرَفَعُ إليه رَأْسَهُ وَقَالَ: إلى هَا هُنَا عَقْلُكَ إِنَّ الْعُلَماء يُحْشَرُونَ مَعَ الأَنْبِيَاءِ وَإِنَّ الْقُضَاةَ يُحْشَرُونَ مَعَ السَّلاطِين اهـ.
بَلِّغْ يَا أَخِي الَّذِينَ يُرَشحُونَ أَنْفُسَهُم لِلْقَضَاء وَيُعْمِلُون الْوَسَائِط لِلْحُصُول عليه وهم غير أهلٍ له لم تَجْتَمِعْ فيهم الشروط ولا يُحْسِنُونَ الْقَضَاء.
وَدَعَا الْخَلِيفَةُ أَيامَ الْمِحْنَةِ مُحَمَّد بن مُقَاتِل الرَّازِي وَأَبَا الصَّلْتِ عَبْدِ السَّلامِ فَقَالَ لِمُحَمَّد ابن مُقَاتل: مَا تَقُولُ فِي الْقُرْآنِ؟
قَالَ: أقول التوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان، فإنَّ هذه الأربعة وأشار إلى أصابِعهِ الأربعة مَخْلُوقَة.
فظنوا أنه يُرِيدُ الكتبَ المنزلة وهُو يُرِيدُ أَصَابِعَ يَدِهِ الأربعة فَنَجَا.
فقَالَ للآخر وهو أبو الصَّلْتِ: ما تقول؟ فقَالَ: تَعَزَّ يا أمير المؤمنين.
قَالَ: عن مَنْ وَيْلَكَ؟ قَالَ عن القُرآن فَإِنَّهُ ماتَ. قَالَ: فَكَيْفَ؟ قَالَ: إنْ كَانَ مَخْلُوقًا فَإِنَّهُ يَمُوت.
وأُدخل عُبَادَةُ علي الواثق والناس يُضْرَبُون وَيُقْتَلُون في الامتحان بالقُرآن قَالَ عُبَادة: فَقُلْتُ في نَفْسِي وَالله لَئِنْ امْتَحَنَنِي قَتَلَنِي فَبَدَأْتُ بِهِ فَقُلْتُ: عَظم اللهُ أَجْرَكَ أَيُّهَا الْخَلِيفَة. قَالَ: فِيمَنْ؟ فَقُلْتُ: في الْقُرْآنِ. قَالَ: وَيْحَكَ وَالْقُرْآنُ يَمُوت؟ قُلْتُ كُلَّ مخلوق يَمُوت فإذا مات القرآن في شعبان فبأي شيء يصلي الناس في رمضان. فقَالَ الواثق: أَخْرِجُوه فإنه مجنون.
فائدة نفيسة: قَالَ أحد العلماء رحمه الله تعالى: اعلم أنَّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم وقد صارت عدوّةً لله وعدوّةً لأَوْلِيَائِهِ وعدوّةً لأَعْدَائِهِ، أما عَدَاوَتُهَا لله تعالى فلأَنّها قَطَعَتِ الطَّريقَ بينه وبينَ أوليائِهِ.
ولهذا فإنّه لم يَنْظُر إليها مُنْذُ خَلَقَهَا، وأَمَّا عداوتُهَا لأَوليائِهِ فلأَنّها تَزَيَّنَتْ لهم بِزِينَتِها وَغَمَرتْهُم بِزَهْرَتِهَا وَتَزَهَّتْ لهم بنَضَارَتِهَا حتى تجَرَّعُوا مَرَارَاتِ الصَّبرِ في مُقَاطَعَتِهَا وَتَحَمَّلُوا الْمَشَاقَ فِي الْبُعْدِ مِنْهَا.
وَأَمَّا عَدواتُهَا لأَعْدَائِهِ فَلأَنها اسْتَدْرَجَتْهُم بِمَكْرِهَا وَمَكَايِدِهَا وَاقْتَنَصَتْهمِ بحَبَائِلِهَا وَأَقْصَدَتْهُمْ بِسِهَامِهَا حَتَّى وَثِقُوا بِهَا وَعوَّلُوا عليها.
فَخَذَلَتْهُمْ أَحْوَجَ مَا كَانُوا إِلَيْهَا وَغَدَرَتْ بِهِمْ أَسْكَنَ مَا كَانُوا إِلَيْهَا فَاجْتَنَوْا مِنْهَا حَسْرَةً تَنْقَطِعُ دُونَهَا الأَكْبَادُ. وَحَرَمَتْهُمْ السَّعَادَةَ الأَخْرَوِيَّةِ عَلَى طُولِ الأَمَاد فَانْتَبِه يَا مَنْ اغْتَرَّ بِهَا قَبْلَ أَنْ يُصِيبَكَ مِثْلَ مَا أَصَابَ الْمُغْتَرِّينَ بِهَا.
وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: إِذَا كَانَ أَبُونَا آدَم بَعْدَ مَا قِيلَ لَهُ: أُسْكُنْ أَنْتَ وَزَوّجُكَ الْجَنَّةَ صَدَرَ مِنْهُ ذَنْبٌ وَاحِدٌ فَأمِرَ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْجَنَّةِ فَكَيْفَ نَرْجُوا دُخُولَهَا مَعَ مَا نَحْنُ مُقِيمُونَ عَلَيْهِ مِنَ الذُّنُوبِ الْمُتَتَابِعَةِ وَالْخَطَايَا الْمُتَوَاتِرَةِ.
كان أبو الفتح المنهى قد برع في الفقه وتقدم عند العوام وحَصَل له مال كثير ودَخَلَ بَغْدَاد وفِوُّضَ إليه التَّدْرِيس بالنِّظامية وأدْرَكَهُ الموتُ بهَمَدان.
فلما دَنَتْ وَفَاتُهُ قَالَ لأصْحَابِهِ: أُخْرُجُوا. فَلَمَّا خَرَجُوا عَنْهُ جَعَلَ يَلْطُمُ وَجْهَهُ وَيَقُولُ: {يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ} ويقول لِنَفْسِهِ مُوَبِّخًا لَهَا: يَا أَبَا الْفَتْحَ ضَيَّعْتَ الْعُمُرَ في طَلَب الدنيا وتحصِيل المال والجاه والتَّرَدُدِ إلى السَّلاطِين وَيُنْشِدُ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ:
عَجِبْتُ لأَهْلِ الْعِلْمِ كَيْفَ تَغَافُلُوا ** يَجُرُونَ ثَوْبَ الْحِرْصِ حَوْلَ الْمَمَالِكِ

يَدُورُونَ حَوْلَ الظَّالِمِينَ كَأَنَّهُمْ ** يَطُوفُونَ حَوْلَ الْبَيْتِِ وَقْتَ الْمَنَاسِك

أَرْسَلَ عُثْمَانُ بن عَفَّان رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مَعَ عَبْدٍ لَهُ كَيْسًا مِنَ الدَّرَاهم إِلى أبي ذر رضي الله عنه وَقَالَ لِعَبْدِهِ: إنْ قَبلَ هَذَا أَبُو ذَر فَأَنْتَ حُرٌ أي عَتِيق فَأَتَى بالكيس إلى أبي ذَرٍ وَأَلَحَّ عَلَيْهِ فِي قُبُولِهِ فَلَمْ يَقْبَلْ فَقَالَ الْغُلامُ لأَبِي ذَرٍ: إِنَّهُ عَلَّقَ عِتْقِي عَلَى قُبُولِكَ هَذَا الْكِيسَ. فَقَالَ أَبُوَ ذَرٍّ: لَكِنَّ فِي قُبُولِهِ رِقِّي.
هذه القصيدة الشيبانية عَدَّلْنَا فِيهَا بَعْضَ أَبْيَاتٍ وَكَانَ بَعْضُهَا فيه شيء لا يصلح.
سَأَحْمَدُ رَبِّي طَاعةً وَتَعَبُّدَا ** وَأَنْظِمُ عِقْدًا فِي الْعَقِيدَةِ أَوْحَدَا

وَأَشْهَدُ أَنَّ الله لا رَبَّ غَيْرَهُ ** تَعَزَّزَ قِدْمًا بِالْبَقَاءِ وَتَفَرَّدَا

هُوَ الأَوَّلُ الْمُبْدِي بِغَيْرِ بِدَايَةٍ ** وَلا بَعْدَهُ شَيْءٌ عَلا وَتَوَحَّدَا

سَمِيعٌ بَصِيرٌ عَالِمٌ مُتَكَلِّمٌ ** قَدِيرٌ يُعِيدُ الْعَالِمِينَ كَمَا بَدَا

مُِريدٌ أَرَادَ الْكَائِنَاتِ لِوَقْتِهَا ** قَدِيرٌ فَأَنْشَا مَا أَرَادَ وَأَوْجَدَا

إله عَلَى عَرْشِ السَّمَاءِ قَدِ اسْتَوَى ** وَبَايَنَ مَخْلُوقَاتِهِ وَتَوَحَّدَا

إِذِ الْكَوْنُ مَخْلُوقٌ وَرَبِّي خَالِقٌ ** لَقَدْ كَانَ قَبْلَ الْكَوْنِ رَبًّا وَسَيِّدَا

وَلَيْسَ كَمِثْلِ اللهِ شَيْءٌ وَلا لَهُ ** شَبِيهٌ تَعَالى رَبُّنَا وَتَوَحَّدَا

وَمَنْ قَالَ فِي الدُّنْيَا يَرَاهُ بِعَيْنِهِ ** فَذَلِكَ زِنْدِيقٌ طَغَى وَتَمَرَّدَا

وَخَالَفَ كُتبَ الله وَالرُّسلَ كُلَّهُمْ ** وَزَاغَ عَنِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ وَأَبْعَدَا

وَذَلِكَ مِمَّنْ قَالَ فِيهِ إِلَهَنَا ** يُرَى وَجْهُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَسْوَدَا

وَلَكِنْ يَرَاهُ في الجِنَانِ عِبَادُهُ ** كَمَا صَحَّ في الأَخْبَارِ نَرْوِيهِ مُسْنَدَا

وَنَعْتَقِدُ الْقُرْآنَ تَنْزِيلَ رَبِّنَا ** بِهِ جَاءَ جِبْرِيلُ النَّبِيَّ مُحَمَّدَا

وَأَنْزَلَهُ وَحْيًا إِلَيْهِ وَأَنَّهُ ** هُدَى الله يَا طُوبى بِهِ لمن اهْتَدَى

كَلام كريم مُنْزَلٌ من إلهنا ** بِأَمْرٍ وَنَهْيٍ وَالدَّلِيلُ تَأَكَّدَا

كلام إلِهِ الْعَالَمِينَ حَقِيقَة ** فَمَنْ شَكَّ في هَذَا فَقَدْ ضَلَّ وَاعْتَدَى

وَمِنْهُ بَدَا قَوْلاً ولا شَكَّ أَنَّهُ ** يَعُودُ إِلى الرَّحْمَنِ حَقًّا كَمَا بَدَا

فَمنْ شَكَّ فِي تَنْزِيلِهِ فَهُوَ كَافِرٌ ** وَمَنْ زَادَ فِيهِ قَدْ طَغَى وَتَمَرَّدَا

وَمَنْ قَالَ مَخْلُوقٌ كَلامُ إلهنَا ** فَقَدْ خَالَفَ الإِجْمَاعِ جَهْلاً وَأَلْحَدَا

وَنُؤْمِنُ بِالْكُتبِ الَّتِي هِيَ قَبْلَهُ ** وَبِالرُّسلَ حَقًّا لا نُفَرِّقُ كَالْعَدَا

وَإِيمَانُنَا قَوْلٌ وَفِعْلٌ وَنِيَّةٌ ** وَيَزْدَادُ التَّقْوَى وَيَنْقُصُ بِالرَّدَى

فَلا مَذْهَبَ التَّشْبِيهِ نَرْضَاهُ مَذْهَبًا ** وَلا مَقْصَدَ التَّعْطِلِ نَرْضَاهُ مَقْصَدَا

وَلَكِنَّ بِالْقُرْآنِ نَهْدِي وَنَهْتَدِي ** وَقَدْ فَازَ بِالْقُرْآنِ عَبْدٌ قَدِ اهْتَدَى

وَنُؤْمِنُ أَنَّ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ كُلَّهُ ** مِنَ اللهِ تَقْدِيرًا عَلَى الْعَبْدِ عُدِّدَا

فَمَا شَاءَ رَبُّ الْعَرْشِ كَانَ كَمَا يَشَا ** وَمَا لَمْ يَشَا لا كَانَ فِي الْخَلْقِ مُوجَدَا

وَنُؤْمِنُ أَنَّ الْمَوْتَ حَقٌّ وَأَنَّنَا ** سَنُبْعَثُ حَقًّا بَعْدَ مَوْتَتِنَا غَدَا

وَأَنَّ عَذَابَ الْقَبْرَ حَقٌّ وَأَنَّهُ ** عَلَى الْجِسْمِ وَالرُّوحِ الَّذِي فِيهِ أُلْحِدَا

وَمُنْكَرُهُ ثُمَّ النَّكِيرُ بِصُحْبَةٍ ** هُمَا يَسْأَلانِ الْعَبْدَ فِي الْقَبْرِ مُقْعَدَا

وَمِيزَانُ رَبِّي وَالصِّرَاطُ حَقِيقَةً ** وَجَنَّتُهُ وَالنَّارُ لَمْ يُخْلَقَا سُدَى

وَأَنَّ حِسَابَ الْخَلْقِ حَقٌّ أَعَدَّهُ ** كَمَا أَخْبَرَ الْقُرْآنُ عَنْهُ وَشَدَّدَا

وَحَوْضُ رَسُولِ اللهِ حَقًّا أَعَدَّهُ ** لَهُ الله دُونَ الرُّسْلِ مَاءً مُبَرَّدَا

وَيَشْرَبُ مِنْهُ الْمُؤْمِنُونَ وَكُلُّ مَنْ ** سُقِي مِنْهُ كَأْسًا لَمْ يَجِدْ بَعْدَهُ صَدَا

أَبَارِيقُهُ عَدُّ النُّجُومِ وَعَرْضُهُ ** كَبُصْرَى وَصَنْعًا فِي الْمَسَافَةِ حُدِّدَا

وَأَنَّ رَسُولَ الله أَفْضَلُ مَنْ مَشى ** عَلَى الأَرْضِ مِنْ أَوْلادِ آدَمَ أَوْ غَدَا

وَأَرْسَلَهُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ رَحْمَةً ** إِلى الثَّقَلَيْنِ الإِنْسِ وَالْجِنِّ مُرْشِدَا

وَأَسْرَى بِهِ لَيْلاً إِلى الْعَرْشِ رِفْعَةً ** وَأَدْنَاهُ مِنْهُ قَابَ قَوْسَيْنِ مُصْعِدَا

وَخَصَّصَ مُوسَى رَبُّنَا بِكَلامِهِ ** عَلَى الطُّورِ نَادَاهُ وَأَسْمَعَهُ النِّدَا

وَكُلُّ نَبِيٍّ خَصَّهُ بِفَضِيلَةٍ ** وَخَصَّصَ بِالْقُرْآنِ رَبِّي مُحَمَّدا

وَأَعْطَاهُ فِي الْحَشْرِ الشَّفَاعَةِ مِثْلُ مَا ** رُوِيَ فِي الصَّحِيحَيْنِ الْحَدِيثُ وَأَسْنَدَا

فَمَنْ شَكَّ فِيهَا لَمْ يَنَلْهَا وَمَنْ يَكُنْ ** شَفِيعًا لَهُ قَدْ فَازَ فَوْزًا وَأَسْعَدَا

وَيَشْفَعُ بَعْدَ الْمُصْطَفَى كُلُّ مُرْسَلٍ ** لِمَنْ عَاشَ فِي الدُّنْيَا وَمَاتَ مُوَحَّدَا

وَكُلُّ نَبِيٍّ شَافِعٌ وَمُشَفَّعٌ ** وَكُلُّ وَلِيٍّ فِي جَمَاعَتِهِ غَدَا

وَيَغْفِرُ دُونَ الشِّرْكِ رَبِّي لِمَنْ يَشَا ** وَلا مُؤْمِنٌ إِلا لَهُ كَافِرٌ فَدَا

وَلَمْ يَبْقَ فِي نَارِ الْجَحِيمِ مُوَحِّدٌ ** وَلَوْ قَتَلَ النَّفْسَ الْحَرَامَ تَعَمُّدَا

وَنَشْهَدُ أَنَّ الله خَصَّ رَسُولَهُ ** بِأَصْحَابِهِ الأَبْرَارِ فَضْلاً وَأَيَّدَا

فَهُمْ خَيْرُ خَلْقِ اللهِ بَعْدَ أَنْبِيَائِهِ ** بِهِمْ يَقْتَدِي فِي الدِّين كُلُّ مَن اقْتَدَى

وَأَفْضَلُهُم بَعْدَ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ ** أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ ذُو الْفَضْلِ وَالنَّدَى

لَقَدْ صَدَّقَ الْمُخْتَارَ فِي كُلِّ قَوْلِهِ ** وَآمَنَ قَبْلَ النَّاسِ حَقًّا وَوَحَّدَا

وَفَادَاُه يَوْمَ الْغَارِ طَوْعًا بِنَفْسِهِ ** وَوَاسَاهُ بِالأَمْوَالِ حَتَّى تَجَرَّدَا

وَمَنْ بَعْدِهِ الْفَارُوقُ لا تَنْسَ فَضْلَهُ ** لَقَدْ كَانَ لِلإِسْلامِ حِصْنًا مُشَيَّدَا

لَقَدْ فَتَحَ الْفَارُوقُ بِالسَّيْفِ عَنْوَةً ** كَثِيرَ بِلادِ الْمُسْلِمِينَ وَمَهَّدَا

وَأَظْهَرَ دِينَ اللهِ بَعْدَ خَفَائِهِ ** وَأَطْفَأَ نَارَ الْمُشْرِكِينَ وَأَخْمَدَا

وَعُثْمَانُ ذُو النُّورَيْنِ قَدْ مَاتَ صَائِمًا ** وَقَدْ قَامَ بِالْقُرْآنِ دَهْرًا تَهَجُّدَا

وَجَهَّزَ جَيْشَ الْعُسْرِ يَوْمًا بِمَالِهِ ** وَوَسَّعَ لِلْمُخْتَارِ وَالصَّحْبِ مَسْجِدَا

وَبَايَعَ عَنْهُ الْمُصْطَفَى بِشِمَالِهِ ** مُبَايَعَةَ الرِّضْوَانِ حَقًّا وَأَشْهَدَا

وَلا تَنْسَ صِِْهَر الْمُصْطَفَى وَابْنُ عَمِّهِ ** فَقَدْ كَانَ حَبْرًا لِلْعُلُومِ وَسَيَّدَا

وَفَادَى رَسُولَ اللهِ طَوْعًا بِنَفْسِهِ ** عَشِيَّةَ لَمَّا بِالْفِرَاشِ تَوَسَّدَا

وَمَنْ كَانَ مَوْلاهُ النَّبِيُّ فَقَدْ غَدَا ** عَلِيُّ لَهُ بِالْحَقِّ مَوْلَىً وَمُنْجِدَا

وَطَلْحَتُهُمْ ثُمَّ الزُّبَيْرُ وَسَعْدُهُمْ ** كَذَا وَسَعِيدٌ بِالسَّعَادَةِ أُسْعِدَا

وَكَانَ ابْنُ عَوْفٍ بَاذِلَ الْمَالِ مُنْفِقًا ** وَكَانَ ابْنُ جَرَّاحٍ أَمِينًا مَؤيَّدَا

وَلا تَنْسَ بَاقِي صَحْبِهِ وَأَهْلَ بَيْتِهِ ** وَأَنْصَارَهُ وَالتَّابِعِينَ عَلَى الْهُدَى

فَكُلَّهُمُ أَثْنَى الإلهُ عَلَيْهِمْ ** وَأَثْنَى رَسُولُ اللهِ أَيْضًا وَأَكَّدَا

فَلا تَكُ عَبْدًا رَافِضِيًا فَتَعْتَدِي ** فَوَيْلٌ وَوَيْلٌ فِي الْوَرَى لِمَنْ اعْتَدَى

وَنَسْكُتَ عَنْ حَرْبِ الصَّاَبةَ ِفَالَّذِي ** جَرَى بَيْنَهُمْ كَانَ اجْتِهَادًا مُجَرَّدًا

وَقَدْ صَحَّ فِي الأَخْبَارِ أَنَّ قَتِيلَهُمْ ** وَقَاتِلَهُمْ فِي جَنَّةِ الْخُلْدِ خُلِّدَا

فَهَذَا اعْتِقَادُ الشَّافِعِيِّ إِمَامِنَا ** وَمَالِك وَالنُّعْمَانِ أَيْضًا وَأَحْمَدَا

فَمَنْ يَعْتَقِدْهُ كُلَّهُ فَهُوَ مُؤْمِنٌ ** وَمَنْ زَاغَ عَنْهُ قَدْ طَغَى وَتَمَرَّدَا

وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.